الشيخ / عبد الله نجيب سالم الباحث العلمي بالموسوعة الفقهية
مقدمة :
عندما يدور الحديث عن آداب التجارة فليس يقصد به فقط أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الذين يسمون في المجتمع بطبقة التجار، بل كل من قلّب المال بالبيع والشراء في السوق فهو في العرف الشرعي تاجر، وعمله مشروع ، سواء كان صاحب متجر كبير أو دكان صغير أم بسطة في طرف السوق أم عربة متنقلة هنا وهناك...
مشروعية البيع والشراء :
ودليل مشروعية البيع والشراء في السوق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)(1) وقوله سبحانه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(2) بل قد ورد في الأدلة ما يشير إلى أن التجارة هي أفضل طرق كسب المعيشة وأشرفها إذا توخى الرجل طرق الحرام والتزم بالآداب الشرعية فيها.
فقد جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الكسب أطيب فقال: (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)(3) . قال الشرقاوي: وهو إشارة إلى التجارة.
ولهذا فقد اهتم بها وبآدابها العلماء قديماً وحديثاً ، حتى ألف بعضهم فيها كتباً خاصة، مثل كتاب "الاكتساب في الرزق المستطاب" للسرخسسي ، وكتاب "التجارة" لأبي بكر الخلال ، وكتاب "البركة في السعي والحركة" للوصابي الحبيشي...
الآداب الشرعية للتجارة :
هذا وآداب التجارة المباركة في الإسلام كثيرة منها ما يلي:
أولاً: النية الصالحة وذكر الله :
يستحب عند دخول السوق أن ينوي التاجر بدخوله النية الصالحة. كالاستعفاف عن سؤال الناس بتحصيل الرزق الكافي، والكف عن الطمع في أموال الناس بالحرام، والاستعانة بما يكسبه على تقوية دينه، وأن يقصد القيام بالغرض الكفائي في تجارته، لأن التجارة لو تركت لبطلت معايش الخلق فكان القيام به فرضاً كفائياً...
ومع النية الصالحة في التجارة يستحب للمسلم أن يذكر الله سبحانه عند دخوله السوق ابتداء ويثني عليه. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله ، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شي قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبنى له بيتاً في الجنة)(1). وقد خص بالسوق بذكر الله لأنه موضع غفلة الناس عن ذلك .
ومما رأينا قبل عهد قريب من بقايا العادات الإسلامية التي اندثرت رجلاً يمر بالسوق بين الحين والآخر على فترات متباعدة يرفع صوته بذلك الذكر يسمى (المذكِّر) وكان له وقع طيب في نفوس أهل السوق عندما ينبههم من غفلتهم ويذكرهم بخالقهم.
ثانياً: البعد عن الصخب والحرص على الأدب ومن آداب المسلم في السوق التزام الهدوء والسكينة مع حركة البيع والشراء، فيكره له رفع الصوت بالخصام واللجاج والسخب، فقد جاء في وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ولا سخّاب في الأسواق)(2)
كما يلتزم المسلم في سوقه بالآداب الإسلامية كغض البصر عن المحارم، وإفشاء السلام، وإغاثة الملهوف، وإبرار القسم، والمحافظة على الصلوات جماعة في المسجد حتى لا يشغله سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وإلا كان كأبيّ بن خلف تاجر قريش الذي ورد أنه يحشر مع قارون وهامان وفرعون وكل من ترك الصلوات وتهاون فيها...
هذا إضافة إلى التزام النظافة فلا يلقى في السوق ما يؤذي المسلمين فإن الله يحب النظافة والجمال، والنظافة من الإيمان، ولا يجوز أن تتحول التجارة المباحة إلى مقذرة ونفايات مكومة.
ومع كل هذا فالمسلم لا يدخل السوق ومعه ما يكون خطراً على المسلمين من بضاعة أو حيوان أو سلاح أو غير ذلك. فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها) أو قال: ( فليقبض بكفه أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء)(1) ولا شك أن غيرها في الضرر مثلها في الحكم.
ثالثاً: بيع وشراء النساء :
يجوز للمرأة أن تدخل السوق بائعة ومشترية لحاجاتها، ويكره لها أن تزاول التجارة بنفسها ، لما يستدعي ذلك من اختلاط بالرجال وخصومة ومطالبات معهم.
ولكن إذا دخلت المرأة السوق وجب عليها ما يجب عليها عند خروجها من بيتها: أن تستر جسدها عن الأعين، وأن تتجنب الزينة في وجهها أو كفيها، وأن لا تستعمل أي نوع من العطور، وأن تتجنب مزاحمة الرجال والميوعة في الحديث معهم ، أو الاسترسال إلى أحاديث جانبية مريبة ، أو الانفراد معهم في أماكن خاصة ، أو أوقات معروفة بعيداً عن الأعين والناس... وإن مما يندى له الجبين أن تتخذ المرأة طعماً لدى بعض المحلات التجارية لاصطياد الزبائن بواسطتها ، بعد أن تجمل وتزين وتصبح ملفتة مثيرة للشهوات.
رابعاً: تعلم الأحكام الشرعية جملة :
ومن أهم آداب التجارة أن يتعلم التاجر الأحكام الشرعية المتعلقة بالبيوع وأنواعها وما يحل منها وما يحرك وما يكره، حتى يتجنب الحرام ويبتعد عن المكروه ويقبل على الحلال.
وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لا بيع في سوقنا إلا من تفقه في الدين)
وهذا الأدب ضروري فإن من المحرمات في التجارة الكذب في وصف السلع، أو الكذب في مواعيد الوفاء، أو الكذب في بيان أثمان الأشياء، أو الكذب في الأيمان ، فإذا ما كان التاجر صادقاً كان له ذلك وسام شرف ديني ودنيوي،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)(1) وقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجّاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق)(2) وقال: (إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق)(3) .
ومن المحرمات الغش والخداع والغبن والتدليس والمغالاة في الربح الفاحش،
فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على صَبُرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس. من عشنا فليس منا)(1) . ومن المحرمات بخس الكيل أو الوزن أو الزرع أو العدد أو القياس،
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء(5) .
ومن المحرمات تلقي السلع واستغفال أهلها عن السعر الحقيقي وشراؤها منهم قبل أن تهبط السوق.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق.
ومن المحرمات السوم على سوم أخيه إذا رضي البائع بسوم أخيه ، فلا يجوز له أن يزيد بعد ذلك لئلا يفسد البيع على الأول. ومن المحرمات في البيوع التعامل مع العدو فيما يقويه على المسلمين ولو بعد صلح معه. ومن المحرمات النجش وهو:أن يزيد في ثمن سلعة لا يريد شراءها بل ليغرر غيره بها. ومن المحرمات بيع ما لم يعتبر له الشرع قيمة إما لنجاسته كالكلب والخنزير أو لخبثه كالخمر وآلات الملاهي أو لضرره كأوراق اليانصيب وصور النساء العاريات والأشرطة الماجنة والقصص المثيرة وكتب الأدب الخليع.
خامساً: السماحة والتيسير :
ومن آداب التجارة في الإسلام السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحّة وعدم التضييق على الناس بالمطالبة. والآثار الواردة في ذلك كثيرة منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)(1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلاً إذا باع ، سهلاً إذا اشترى ، سهلاً إذا اقتضى)(2). وهذه المسامحة تكون مرة بالحط أي تنقيص المبلغ المستوفى ، أو بالإهمال والتأخير في المطالبة بالسداد رغم حلول الأجل ، وكل ذلك مندوب إليه.
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يوجد له حسنة فقيل له: هل عملت خيراً قط؟ فقال: لا ، إلا أنني كنت رجلاً أداين الناس فأقول لفتياني: سامحوا الموسر وانظروا المعسر. وفي رواية: تجاوزوا عن المعسر . فقال الله تعالى: نحن أحق بذلك منه فتجاوز الله عنه فغفر له(3).
ومن هذا القبيل كما ذكر الغزالي رحمه الله عدم غبن الناس وخاصة الشخص الذي يثق به قال: وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار للمغبون.
وفي الحديث: (غبن المسترسل رباً)(4)
كما أضاف إليه أن من مكارم الأخلاق احتمال الغبن وتقبله من بائع ضعيف أو فقير بنية نفعه والإحسان إليه ، ليدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءاً سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى)(5) وهذا على العكس فيما إذا اشترى من تاجر غني مليء فليس محموداً قبول الغبن منه، وإلا كان ذلك عجزاً وسوء تدبير.
سادساً: البعد عن الشبهات :
ومن الآداب الإسلامية في التجارة ترك الشبهات والبعد عن الأمور غير الواضحة وهذا كثير في التجارة. وذلك لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام ؟ فمن تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام)(1) .
ويدخل في هذا ما لم يعلم حكمه حتى يستوضح ويسأل عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(2) . وعلى التاجر أن يسأل عن كل معاملة وبضاعة وعقد وصورة من صور التعامل حتى لا يقع في الحرام. قال الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(3)
سابعاً: التصدق بعد التجارة :
من الآداب الإسلامية في التجارة التصدق من نفس التجارة بعد كل صفقة أو في نهاية كل يوم أو عند كل جرد أو نحو ذلك ـ وهذا غير الزكاة الواجبة في عروض التجارة ـ وإنما استحبت هذه الصدقة من مال التجارة مباشرة بعد الصفقات تطهيراً لها من النقص أو الآثام أو الشبهات، وتطيباً لخاطر من حضر من الفقراء، وتعويداً للنفس على البذل مع وفرة المال وزيادته حتى لا تنعقد على الشح وكنز المال المذمومين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة)(1) . وقال تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِنْهُ)(2)
ثامناً: التبكير للتجارة والجد فيها
ويستحب للتاجر المسلم ـ مهما كانت تجارته ـ أن يبكر تجارته ويبادر أول النهار إلى فتح محاله ودكاكينه، روى صخر الغامدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)(3)
وقيل: إن صخراً كان رجلاً تاجراً وكان إذا بعث تجاره بعثهم أول النهار ، فأثرى وكثر ماله!!. كما يستحب له أن يحسن إلى جيرانه من التجار في الدلالة على ما عندهم وعدم المضايقة لنفوق سلعهم ، بل يفرح بذلك ويسعى إليه ، ناصحاً لهم ، محباً للخير النازل عليهم كحبه للخير النازل إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(4).
(1) النساء: من الآية
29 (2) الجمعة: من الآية10 (3) مسند أحمد (1) المستدرك للحاكم (2) (1) صحيح البخاري (1) (2) المستدرك للحاكم (3) صحيح مسلم (1) صحيح ابن حبان (2) المطففين الآية /3/ (3) صحيح مسلم (4) البقرة الآية /278/ (5) (1) صحيح البخاري (2) سنن الترمذي (3) (4) (5) (1) صحيح البخاري (2) صحيح البخاري (3) النحل الآية /43/ (1) سنن الترمذي (2) النساء: من الآية8 (3) مسند أحمد (4) صحيح مسلم